كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمنازع التفكير، ومناحى العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء- إنها أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له.
ومع هذا فلا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار.!
وفي قوله تعالى: {إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ للْعالمينَ} إشارة إلى أن عين العلم هنا، هي التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات.
{الليل وما وسق}.
قوله تعالى: {وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
ومن دلائل قدرة اللّه، أن أليس الإنسان لباس النوم، ليجد فيه الجسم سكنه وراحته، مما يعالج في يقظته من أعمال، وما يحمل من أعباء. فكان النوم واليقظة خلفة، يدوران في فلك الإنسان، كما يدور الليل والنهار في فلك الوجود. وبهذا التوارد للإنسان على موارد النوم واليقظة، يعرف نعمة اللّه عليه، وإحسانه إليه، ويجد للنوم طعمه الهنيء في كيانه، كما يجد لليقظة مساغها العذب في كل جارحة من جوارحه.
وفي قوله تعالى: {وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله} وفي تقديم النوم، على اليقظة التي يدل عليها قوله تعالى: {وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله} في هذا إلفات إلى نعمة النّوم، التي قلّ أن يلتفت إليها كثير من الناس، إذ كان في النوم عزل للإنسان عن الحياة، وقطع للصلة بينه وبين ذاته، حتى لكأنه قد فقد وجوده. ومن هنا كانت نظرة كثير من الناس إلى النوم على أنه عارض دخيل على الإنسان، أشبه بالآفات التي تعرض للجسد.
وهذا فهم خاطئ هذه النعمة العظيمة التي تضيفها يد الرحمة الإلهية على الإنسان!.
وندع النظر إلى النوم- كظاهرة جسدية- وإلى وظيفته العضوية في كيان الجسد الإنسانى وتنظر إلى ما يقع للإنسان في رحلة النوم، وما يصادفه على طريقه من رؤى وأحلام، حيث تنطق قوى الإنسان الخفية، وتسبح في عوالمها، وتحقق قليلا أو كثيرا من مطالبها التي أمسكتها عنها يقظة الجسد، وقيدتها دونها جوارحه.
ففى رحلة النوم، وفيما بين اليقظة والنوم، يسبح الإنسان بعقله وروحه، فيما وراء هذا العالم المادي. حيث لا قيود ولا سدود. وحيث يحقق الإنسان في هذا العالم ما عجز عن تحقيقه في عالمه المادىّ، فيجد في هذا ما يجد الجوعان بعد الشبع، والظمآن بعد الرىّ! فكم من محروم، طعم في نومه من كل طيّب كانت تشتهيه نفسه، وتقصر عنه يده؟ وكم من مظلوم، اكتوى بنار الظلم من يد ظالمه، ثم جاء إليه في عالم الأحلام، صاغرا ذليلا، فكال له الصاع صاعين، وشفى ما بنفسه من قسوة الظلم ومرارته؟
وكم من محبّ باعد الزمن بينه وبين حبيبه، وانقطع بينهما حبل اللقاء، بغربة نائية في عالم الأحياء، أو عالم الموتى. وإذا هما في الكرى على لقاء، يتساقيان كئوس الحبّ مترعة، ويرتشفان راح المودة صافية؟.
وكم من عالم وقف به علمه أمام معضلة لم يجد لها حلّا، حتى دبّ اليأس في صدره، وغربت شمس الرجاء من أفقه، وإذا هواتف الرؤى تناديه، وتبوح إليه في نومه بما ضنت به عليه في يقظته. وإذا الحقيقة بين يديه سافرة، والمعضلة بديهة!! وكم؟ وكم؟ وكم؟
إننا في عالم النوم لنجنى من الثمرات العقلية، والروحية، والنفسية، ما لا نحصل عليه في يقظتنا، بمدركاننا، وحواسنا.
ذلك أن النوم إذا قطع صلتنا بعالم الحسّ، وصلنا بعالم الروح. وكما تأخذ أجسادنا حظّها من طعام وشراب، من عالمها المادي، فإن أرواحنا، ونفوسنا، وعقولنا تتزود في رحلة النوم، من عالم الروح بكل ما تستطيع الوصول إليه منه.
فالنوم ليس إلا حبسا للجسد، وإطلاقا للروح. وهو بهذا إنما يعطى الجانب الروحىّ من الإنسان حظه، من التحرر والانطلاق من كثافة المادة، وضغوطها، وظلامها. وإلّا، فإنه لو ظنّت الروح حبيسة في كيان الجسد، تقوم على حراستها في داخل هذا السجن المظلم- الحواسّ والمدركات- لاختنقت، وانطفأ نورها، ومات شعاعها.
وماذا يبقى للإنسان أو من الإنسان إذا عطبت روحه، وانطفأ هذا المصباح الإلهى المشتعل في كيانه؟ إنه لا إنسان بغير روح، وإنه لا وجود لإنسانية فقدت روحها، وإن لم تفقد حياتها. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». فهذا يعنى أن الروح قد تخلصت بالموت تخلصا تاما من الجسد، وخرجت بوجودها كلية من سجنه المطبق عليها، وعندئذ بحد الإنسان وجوده كاملا. فالإنسان في حقيقته روح، وما الجسد إلا منزلا نزلته الروح في مرحلة من مراحل السفر في هذا الوجود! ومن هنا نستطيع أيضا أن نلمح أن البعث بالروح لا بالجسد، ولهذا مبحث خاص سنعرض له- إن شاء اللّه! فالذين يستخفون بالنوم، ويمدونه ضرورة من الضرورات الثقيلة المفروضة على الطبيعة البشرية، ويحسبونه داء من تلك الأدواء التي تلحق الإنسان، وتطغى على وجوده، كالطفولة، والشيخوخة- هؤلاء مخطئون أشد الخطأ، إما لجهلهم، الذي يقصر بهم عن إدراك ما لا تلمسه أيديهم، وتذوقه أفواههم، وإما لأنهم ماديون، لا يرون إلا المادة، ولا يتعاملون إلا بها، ولا يجدون في الإنسان إلا أنه حيوان، مخلف بهذا الخلاف المادي من العظم واللحم! وإذا كان النوم على ما رأيت- نعمة جليلة، فإن اللّه سبحانه وتعالى، قد جعل الليل الذي هو الظرف الطبيعي للنوم- نعمة جليلة أيضا، كما يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إلى يَوْم الْقيامَة مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللَّه يَأْتيكُمْ بلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فيه أَفَلا تُبْصرُونَ} (72: القصص).
فالليل، ستار يغشى الكائنات الحية، ومنها الإنسان، فيسلمها ذلك إلى السكن، ثم النوم!.
إن لليل سلطانا قاهرا كسلطان النهار على الأحياء. هذا النوم، وذاك لليقظة ذلك للموت، وهذا للبعث. {وَهُوَ الَّذي يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْل وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنَّهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيه ليُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْه مَرْجعُكُمْ} (60: الأنعام).
وقد كان الليل، لسلطانه هذا، إلها، يناظر النهار، ويقاسمه حكم هذا العالم. فدان كثير من الناس بهذه الديانة المثنوية، فجعلوا الآلهة اثنين، إلها للنور، وآخر للظلمة. واعتقدوا في إله النور الخير، على حين كان معتقدهم في إله الظلام أنه شر، وأن الحرب دائرة بينهما، وأن على المؤمنين أن ينتصروا لإله الخير، وأن يرقبوا خلاص العالم، من الظلام، والشر، على يديه، وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ** تحدّث أن المانوية تكذب

فهو يجد في الليل طيف محبوبه يلمّ به، ويسعده، في زورة من زورات الأحلام، وهذا يحدث عن الليل بما يكذب المانوية، التي تعتقد أن الليل شر لا يجىء منه خير! بل إن المتنبي ليجد هذه اليد الكريمة لليل عنده في عالم اليقظة حيث يتخذ من الليل ستارا يخفيه عن أعين الرقباء، فيقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لى وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي وكم تغنى الشعراء بالليل؟ وكم حدا الحداة وهم سائرون في عبابه، مأخوذون بهيبته وجلاله؟
وكم ناجى العبّاد ربهم بالليل، وقطعوا آناءه حمدا وتسبيحا، وركوعا وسجودا؟
إن الليل، وإن لم يستول على الإنسان سلطان النوم فيه، فإن في ظلامه غرصة تحجز الحواس عن الانطلاق، وتمسكها عن العمل، وعندئذ تصحو شاعر الإنسان، وتستيقظ روحه، ومن هنا يكون مهيئا للانصال بالعالم العلوي، والوقوف على موارده، والري من مشاربه.!
ولأن الليل هو الظرف الطبيعي للنوم- كما قلنا- فقد أقسم اللّه سبحانه وتعالى به، وسمى سورة من القرآن الكريم به، تنويها بقدره، وإشارة ترفع تلك الغشاوة التي تنظر إليه نظرة باردة، أو شاردة، أو متهمة. فقال تعالى: {وَاللَّيْل إذا يَغْشى وَالنَّهار إذا تَجَلَّى} (1- 2 الليل) وقال سبحانه: {وَالشَّمْس وَضُحاها وَالْقَمَر إذا تَلاها وَالنَّهار إذا جَلَّاها وَاللَّيْل إذا يَغْشاها} (1- 4: الشمس) وقال سبحانه: {وَاللَّيْل وَما وَسَقَ} (17: الانشقاق).
وفي عطف النهار على الليل في قوله تعالى: {وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار} تقرير لتلك الحقيقة الواقعة، وهى أن الليل، وإن كان هو الظرف الطبيعي للنوم، فإن ذلك لا يمنع أن يكون النهار ظرفا للنوم أيضا، حيث ينام الناس بالليل، وينامون كذلك بالنهار، وإن كان النوم بالليل أصلا، والنوم بالنهار فرعا ولهذا قدم الليل على النهار في هذا المقام.
ومن جهة أخرى، نجد في قوله تعالى: {وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله} وإن جاء مجاورا للنهار، فإنه معطوف على قوله تعالى: {مَنامُكُمْ باللَّيْل}. وهذا يعنى أن النهار، وإن كان الظرف الطبيعي للسعى والعمل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الليل ظرفا للسعى والعمل! كما هو واقع في الحياة. فالناس يعملون بالنهار، ويعملون بالليل، كما ينامون بالليل، وينامون بالنهار.
وعلى هذا يكون مفهوم النظم القرآنى هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله، بالليل والنهار.
ولكن أين هذا من ذاك؟ هذا كلام، وذاك قرآن.!
وفي قوله تعالى: {إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وفي استدعاء السمع هنا، دون حواس الإنسان وملكاته الأخرى- في هذا إشارة إلى أن السمع الذي يحقق إدراكا، ويعطى فهما، ثم يعطى لهذا الفهم، وذلك الإدراك، ثمرة- هو السمع الذي يخلى له الإنسان حواسه كلها، ويعطيه وجوده كله، على ما يكون عليه الإنسان في الليل، وقد اشتمل عليه، وأمسك كل حواسه، فلم يبق الإنسان إلا سمعه المرهف، الموجه إلى العالم الخارجي، وما يجىء منه وذلك ما يكون عليه الإنسان، حين يقع تحت حكم الآية:
{وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله} فيحتويه الليل، ويبسط عليه سلطانه.
قوله تعالى: {وَمنْ آياته يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزّلُ منَ السَّماء ماءً فَيُحْيي به الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقلُونَ}.
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنهما جميعا في معرض الدلالة على قدرة اللّه سبحانه، والكشف عن أنعمه وآلائه. ثم إن البرق إنما يظهر سلطانه على أئمّه، حين يلمع بالليل الذي جاء ذكره في الآية السابقة.
ورؤية البرق، إشارة دالة على الرحمة المرسلة من عند اللّه، على يد هذا السحاب الذي ينطلق البرق من خلاله. فإذا لمع البرق توقع الناس الغيث، واختلفت توقعاتهم له بين يأس ورجاء، وخوف وطمع. وذلك أن البرق وإن كان رسولا من رسل الغيث، إلا أنه قد يحىء بالغيث، وقد لا يجىء. فهناك برق يسمى برق الخلّب، وهو الذي يبرق ولا يصحبه مطر. ومن هنا كان قوله تعالى: {خَوْفًا وَطَمَعًا} إشارة إلى أن لمعان البرق، وإن طلع على الناس بما يبشر بالغيث، فإنّه يضع المشاعر المترقبة للمطر، المتلهفة عليه، في موضع متأزم، بين الخوف والرجاء. بل إن الخوف ليغلب على الرجاء، وخاصة إذا كانت الحاجة إلى المطر شديدة، والطلب له ملحا وهذا هو بعض السرّ في تقديم الخوف على الطمع. إذ كانت الآية الكريمة منجهة أوّلا إلى من يقيمون حياتهم على ماء المطر، مثل سكان الصحارى، ونحوها. فهؤلاء إذا تأخر نزول المطر أياما، وأمسكت السماء رحمتها قليلا عنهم، فزعوا، واضطربوا، وتعلقت أنظارهم بالسماء، يرقبون السحب، ويرصدون مسيرتها.
فإذا لمع البرق، بدا لهم منه الوجه الضاحك المبشر بالخير، فقرحوا، واستبشروا.
ولكن سرعان ما يطلع عليهم شعور أسود كالح، يقطع عليهم هذه الفرحة، كأنه يقول لهم: وما يدريكم أن وراء هذا البرق مطرا؟ ألا يجوز أن يكون برفا خلبا؟ وهنا يأخذ الخوف مكان الصدارة على مشاعرهم، شأن الحريص على الشيء، المتلهف إليه يغلب عليه الخوف على فقده أكثر من الطمأنينة إلى بقائه!.
قوله تعالى: {وَمنْ آياته أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بأَمْره ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً منَ الْأَرْض إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} قيام السماء والأرض بأمر اللّه، هو حفظ نظامهما، والإمساك بهما على هذا النظام الذي أوجدهما اللّه سبحانه وتعالى عليه. وأمر اللّه، هو سلطانه وقدرته.، وهذا يعنى أنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يضيف هذا الوجود، في أرضه وسمائه إلى غير اللّه سبحانه، كما يقول بذلك الملحدون من الطبيعيين الذين ينسبون الموجودات إلى الطبيعة، ويقولون إن الأشياء وجدت هكذا بطبيعتها- نقول إنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يقول مثل هذا القول، فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة. وهذه هي بعض صفات الألوهية. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟
إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا!- وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً منَ الْأَرْض إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}.
إشارة إلى أن أمر اللّه وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون.
وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما.
وفي العطف بثم إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا. وفي تصدير الجملة الخبرية {إذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ} بأداة المفاجأة {إذا} إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل كما يقول سبحانه: {وَنُفخَ في الصُّور فَإذا هُمْ منَ الْأَجْداث إلى رَبّهمْ يَنْسلُونَ} (51: يس). والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة.
ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: {يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا منْ مَرْقَدنا} (52: يس).
قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّماوات وَالْأَرْض كُلٌّ لَهُ قانتُونَ}.
القانت: الخاضع المستجيب لغيره، طوعا.
والآية تعقيب، على الآية السابقة، وأن هذا الوجود في سمائه وأرضه، هو خاضع لأمر اللّه، مستجيب له. وأن الموتى إذا دعوا من قبورهم لا يملكون إلا أن يستجيبوا لما دعاهم إليه سبحانه وتعالى: {إنْ كُلُّ مَنْ في السَّماوات وَالْأَرْض إلَّا آتي الرَّحْمن عَبْدًا} (93: مريم) وفي التعبير عما في السموات والأرض من مخلوقات، بلفظ {من} التي للعقلاء- إشارة إلى أن هذه الموجودات، محكومة بنظام، مسيّرة بحكمة وعلم، حتى لكأن في كل كائن منها عقلا مدبّرا، وموجّها. فهى بهذا الاعتبار، عاقلة، مدركة!.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى في السَّماوات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ}.
وهذه الآية تعقيب كذلك على الآية السابقة، وهى تقرر أن من له من في السموات والأرض، هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده كما بدأه.
والمراد بالخلق هنا، المخلوقات كلها. وهذا يعنى أن الوجود في حركة دائمة، وفي هدم وبناء مستمرّين. وأن الوجود في أية لحظة، هو على غير صورته في اللحظة السابقة أو اللاحقة. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالكٌ إلَّا وَجْهَهُ}. فمعنى الهلاك هنا هو التحول، والتبدل، وتغاير الصور والأشكال، وليس معنى الهلاك الفناء المطلق إذ أن المادة لا تفنى، وإنما تتبدّل وتتحول، وتأخذ قوالب مختلفة! وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} هو من هذا المعنى، وأن الفناء هو زوال صور الأشياء، وقوالبها وأخذها صورا وقوالب أخرى. فعملية الخلق مستمرة دأبا، وتقابلها من جهة أخرى عملية الموت، أو البلى، أو الفناء، أو الهلاك.
وكلها هنا بمعنى واحد، وهو التحول والتبدل، لا الفناء المطلق الأبدى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إنَّا كُنَّا فاعلينَ} (104: الأنبياء).
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه}.
{أهون} صيغة تفضيل، وأصله من هان الأمر، أي خف بعد ثقل، وأمر هين: خفيف الحمل، قليل المئونة، ومنه قوله تعالى: {قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ}.
وليس بالإضافة إلى اللّه سبحانه وتعالى، ما هو هين، وأهون منه. فكل شيء في قدرة اللّه، لا يعجزه سبحانه، شيء في الأرض ولا في السماء. لا يتكلف- سبحانه وتعالى- لأمر جهدا. {إنَّما أَمْرُهُ إذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. يستوى في هذا كبير الأمور وصغيرها. السموات والأرض ومن فيهن، هي في قدرة اللّه كالذرة أو البعوضة. {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ واحدَةٍ}.
فهذا التفضيل {أهون} منظور فيه إلى قدرة الإنسان، وإلى ما يقوم على صنعه من أشياء. فاختراع الشيء، لا يتوصل إليه الإنسان إلا بعد جهد، ومعاناة، وتبديل وتغيير، وتسوية، وحذف وإضافة، حتى يستقر الشيء على الصورة التي يرتضيها.، فإذا انتهى الإنسان إلى تلك الصورة، كان حلها وتركيبها، أمرا هينا عنده، لا يتكلف له جهدا. إن مثال الصورة قائم بين يديه، وحاضر في تفكيره، وما عليه إلا أن يضع الأجزاء التي تناثرت أشلاؤها، في هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه.
وفي قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى في السَّماوات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ} إشارة إلى أن قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل اللّه، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. فهو سبحانه: {العزيز} الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود.
{الحكيم} الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان. اهـ.